مقالات

رأي | المؤتمر بعد صالح

اخباري نت – فارس جميل ، نيوزيمن، :
مع تأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام في 24 أغسطس 1982 كانت قياداته شابة أو في عقد الأربعينات غالبا، لكنها استمرت في قيادته 3 عقود دون تصعيد قيادات شابة جديدة للصف الأول في الحزب، ويبدو أنها أصابته بالشيخوخة أو الحكمة التي ليس هناك مجال لاستيعابها في زمن الصراع، رغم أن المؤتمر ولد من رحم الصراع يومها، إلا أن معطياته وأدواته مختلفة.

في آخر فعالية جماهيرية واسعة للمؤتمر عندما أحيا ذكرى تأسيسه الـ35 في أغسطس 2017 كان الحزب يعيش أصعب مراحله، فبينما كان رأسه ثابتاً منذ تأسيسه، إلا أن ذلك الرأس فقد كثيراً من فقرات عموده الفقري التي طالما استند إليها كرئيس للمؤتمر وللدولة، وكان الدكتور عبدالكريم الإرياني أحد تلك الفقرات الهامة التي فقدها صالح منذ تحالفه مع جماعة الحوثيين.

تعرض المؤتمر لهزات كبيرة وانقسامات غير مسبوقة منذ 2011، لكن بقاء صالح على رأس الحزب كان عنصر الربط الأقوى بين أعضائه، رغم ذلك فإن آلية اتخاذ القرار في المؤتمر ضاقت دائرتها، وبعد ظهور صراعات صالح وهادي للعلن منتصف 2012، كان المؤتمر يمر بمرحلة إعادة فرز وتقييم، بل وإعادة تعريف لذاته كتنظيم سياسي ضم في عضويته أغلب أطياف العمل السياسي والتوجهات الفكرية في اليمن، التي جذبها إلى فلكه كونه حزبا حاكما ونافذة للمناصب العامة، أكثر من كونه حزبا سياسيا.

هادي الذي شغل منصب النائب الأول لرئيس الحزب والأمين العام وكان بيده صلاحيات إدارة الحزب تنظيميا ومالياً منذ نوفمبر 2008 طمح إلى إقصاء صالح من آخر قلعة له، ووراثته في رئاسة المؤتمر كوراثته في رئاسة الدولة، لكن صالح استمر في ترأس الحزب حتى بعد تنحيه عن رئاسة الجمهورية، ووصل الأمر إلى قيامه بعزل هادي من موقعه كأمين عام للمؤتمر بالتزامن مع تطورات سياسية أدت إلى سيطرة الحوثيين على صنعاء.

عين هادي أحمد عوض بن مبارك رئيسا للحكومة في 7 أكتوبر 2014 حسب اتفاقية السلم والشراكة التي وقعت بين الأحزاب السياسية والحوثيين، لكن المؤتمر وقف بقوة ضد بن مبارك وهو نفس الموقف الذي أعلنه الحوثيون ليضطر هادي إلى تعيين خالد محفوظ بحاح رئيسا للحكومة التي لم تكد تبدأ بممارسة مهامها حتى وضعها الحوثيون تحت الإقامة الجبرية.

ونتيجة لمساع بذلها هادي وأتت ثمارها بوضع صالح ونجله ضمن قائمة المعرقلين لعملية الانتقال السياسي الذين شملتهم العقوبات الأممية بحظر السفر وتجميد الأموال دفعت صالح والمؤتمر إلى رفض المشاركة في حكومة بحاح واعتبار من ضمتهم من المؤتمريين لا يمثلون سوى أنفسهم، وهكذا تعددت مظاهر ومستويات التفكك المؤتمري دون قراءة لنتائجها وآثارها المستقبلية على الحزب والدولة معا.

كان الدكتور الإرياني الذي حاول أن يكون عنصر ربط بين رأسي المؤتمر صالح وهادي قد وصل إلى طريق مسدود، واختار الانحياز لهادي بعد أن شكل صالح حلفا مع الحوثيين، لم يكن قد أعلن رسميا يومها، ولم يكن من السهل التمييز بين تصرفات الحوثيين وتصرفات المؤتمر وصالح، حيث مثلت تلك الضبابية فرصة ذهبية للحوثيين لاستثمار أسهم المؤتمر سياسيا دون أن يعرف أحد الفاصل بين الحليفين، وكانت تلك العملية أخطر عملية تضليل تعرض لها أعضاء المؤتمر الذين فتحوا مناطقهم للحوثيين أواخر 2014 وأوائل 2015 باعتبارهم ذراعا لصالح.

تنصل المؤتمر من هادي وقيادات مؤتمرية أخرى لحقته إلى الرياض مع إعلان التحالف بقيادة السعودية التدخل العسكري في اليمن، وأبرزهم الدكتوران الإرياني وبن دغر، ورفض مؤتمر صنعاء تدخل التحالف، فيما اعتبره شأنا يمنيا داخليا، بينما جمع هادي أعضاء من اللجنة العامة للمؤتمر لتسميه رئيسا للحزب في 22 أكتوبر 2015، ولم يمثل ذلك سوى أشرعة لسفينة الخلاف، ففي نفس الوقت اتهم صالح تلك القيادات بالخيانة، وظل عمليا هو المهيمن على قرار المؤتمر وقواعده، لكنه لأول مرة لم يعد قادرا على ضبط إيقاع الأداء المؤتمري كليا.

فقد المؤتمر الوظيفة الرئيسية لأحزاب السلطة المتمثلة في ربط النظام السياسي بالبيروقراطيّة والمجتمع، وتحويل التنظيم الحزبي إلى قناة للنفاذ إلى جهاز الدولة، بينما لم يتحول بشكل واضح إلى حزب معارض، بل شارك مع الحوثيين بصنعاء إدارة مؤسسات الدولة بكوادره ذات الخبرة الواسعة خاصة أولئك الذين قاموا بدور القائمين بأعمال الوزارات المختلفة، وهكذا ظل عالقا في الفراغ كما اتضح لاحقا.

كان صالح قد حاول منذ العام 2005 خلق توازن في قيادة المؤتمر تمنح منصب الأمين العام للمحافظات الجنوبية كما هو حال رئاسة الحكومة، فأضعف الجانب التنظيمي للحزب لأن القيادات الجنوبية ذات الخبرة الحزبية اليسارية لم تكن تجيد لعبة السياسة وفق قواعد توازن القوى القائم شمالا بطريقة غير مكتوبة، واعتمد الرجل بعد 2012 على علاقاته كرئيس سابق ونفوذه الاجتماعي وقاعدته الشعبية لإدارة المؤتمر في أخطر مرحلة تحول سياسي مرت بها اليمن، ففقد الحزب قدرته على التعامل مع قواعده مباشرة، وعانت تلك القواعد من عملية تضليل وتيه حتى أصبح استقطابها من قبل القوى الأخرى وخاصة الحوثيين عملية تجريف غير مشاهدة، في ظل انشغال القوى السياسية بعملية الحوار ثم الحروب الصغيرة التي توسعت دائرتها وتصاعد معها تأثير الحوثيين على حساب الدولة والمؤتمر معا.

تخندق المؤتمر في صف الحوثيين دون ضمانات حقيقية لتوازن الشراكة منح الحوثيين مظلة سياسية وحاضنة اجتماعية لم تكن لتحصل عليها خلال سنوات طويلة، وفي نفس الوقت حرم المؤتمر من الاستمرار كفاعل قوي، بقدر ما أصبح تابعا صامتا للحوثيين، بينما راهن الشارع على دهاء صالح وقدرته على قلب الطاولة عليهم في أي وقت، وعاش ذلك الوهم دون العمل على تحقيقه في الواقع، ليجد صالح نفسه وحيدا ساعة الصفر.

لم ينتبه المؤتمر لتأثير الزمن والتصرفات الحوثية على كتلته الجماهيرية وعلى علاقاته الخارجية وعلى قياداته التي كانت تتعرض للضغط والابتزاز لتتخلى عن موقعها في الحزب عمليا ولو استمرت فيه نظريا، وعندما استيقظ أخيرا كانت المعادلة قد تغيرت، والموازين الدولية قد استقرت على تفريغ صنعاء من المؤتمر وصالح وتسليمها للحوثيين كجماعة وظيفية توفر للقوى الكبرى ذريعة مثالية لابتزاز دول التحالف الثري وإعادة رسم خريطة البلد.

نفخ المؤتمر في فقاعة الدفاع عن الوطن كتوصيف لممارسات الحوثيين، فتحولت تلك الفقاعة إلى بالون ضخم لم يستطع المؤتمر تنسيمه عندما أراد ذلك، وقدم التحالف هدايا مجانية للحوثيين في أوقات كثيرة كقصفه للقاعة الكبرى وتصفيته لعدد من أبرز قيادات المؤتمر والدولة الذين كان يمكن لموقفهم أن يغير معادلة القوة في صنعاء، وهكذا أصبح وزراء المؤتمر عرضة لإهانات الحوثيين، والمجلس السياسي مظلة مجانية لجماعة عبدالملك، ولم تسلم رئاسته للمؤتمر حسب اتفاق التأسيس مطلقا حتى مقتل الصماد بعد صالح بخمسة أشهر.

بعد ما تعرض له المؤتمر في أغسطس 2017 من إفراغ لأكبر حشد شعبي رافض للشراكة مع الحوثيين من محتواه، كان يمكن أن يقوض هيمنة الحوثيين ويكسر شوكتهم ويقتل شرعيتهم التي رسموها كمدافعين عن الوطن أمام عدوان خارجي، وفي 17 سبتمبر 2017 قال بيان للمؤتمر:
“للأسف الشديد فقد واجه المؤتمر الشعبي العام وحلفاؤه تحديات كبيرة في سبيل سعيهم للتمسك بالشراكة وفقاً لنصوص اتفاقاتها الموقعة بين المؤتمر وحلفائه وأنصار الله وحلفائهم وتمثل ذلك في استمرار التدخل في عمل مؤسسات الدولة والتهرب من الالتزام بأدائها لمهامها وفقاً لنصوص الدستور والقوانين……. واستمر التجاوز لكل ضوابط ونصوص ومقتضيات الشراكة واستمرت عمليات الانفراد بإصدار القرارات، والضرب عرض الحائط بمفهوم التوافق سواء على مستوى المجلس السياسي الأعلى او على مستوى حكومة الإنقاذ الوطني”.

ومع ذلك أكد المؤتمر، في ذات البيان، تمسكه بالشراكة مع الحوثيين مع رفض خجول لقرارات معينة فقط: “ورغم كل ما سبق ذكره من الممارسات والإجراءات التي تنسف مفهوم ومقتضيات ومتطلبات الشراكة إلا أن اللجنة العامة تؤكد أن ذلك كله لن يثني المؤتمر الشعبي العام وحلفاءه على الاستمرار في الحفاظ على الشراكة الوطنية القائمة على الالتزام الكامل بنصوص اتفاقاتها وفقا لنصوص الدستور والقوانين والأنظمة واللوائح في أداء مؤسسات الدولة، والتصدي للعدوان بمختلف وشتى الوسائل الممكنة والمتاحة، واعتبار تلك القرارات الأحادية الجانب غير ملزمة ومخلة بمبدأ الشراكة والتوافق، بل وتخدم أهداف ومخططات قوى العدوان في شق الصف الوطني”.

لم يكن لذلك البيان من قوة ولا فائدة بعد أغسطس 2017، غير توضيح متأخر للرأي العام لموقف المؤتمر وممارسات حلفائه، لكنه جاء في الوقت الضائع، فلم يكن الحوثيون يرضون بأقل من الإجهاز على المؤتمر واجتثاث نظام صالح لما يمثله من تهديد حقيقي عليهم، أقوى من التحالف والشرعية وغيرهم وتكرست قناعتهم بذلك بعد أن هيمنوا عمليا على المجال العام ومؤسسات الدولة والجيش.
كان موقف الحوثيين وصعودهم المستمر منذ 2014 يستند إلى رغبة دولية تبلورت مطلع الألفية مع بدء تحول اهتمام أمريكا بإعادة رسم خريطة المنطقة عبر تصعيد وتمكين ما تسميه بالأقليات العرقية والدينية، وتراجعها عن دعم وتعزيز الديمقراطيات الناشئة، وكانت مكافحة الإرهاب وما رافقها من التباس وتوظيف قد جعل المنطقة في قبضة واشنطن، وبالتالي كانت حركات الربيع العربي تصب في هذا المسار، وكان تدمير مؤسسات دول المنطقة وأنظمتها خطوة أولى لذلك.

واليوم وحزب المؤتمر قد اكتسب خبرة عملية في التعامل مع الحوثيين، أصبحت قدرته ظاهريا على مواجهتهم محدودة نسبيا مقارنة بما كانت عليه من قبل، لكنه رغم كل شيء، وبعد اغتيال رئيسه وتصعيد رئاسة مشوهة، وتشتت قياداته، وخلخلة قاعدته الشعبية، تحول إلى رهان شعبي لإيقاف مد الحركة الحوثية، بعد أن سلبه وقوفه معهم بعض التعاطف.

إن إيقاف معركة الساحل الغربي تؤدي في جانب منها إلى إضعاف موقف القوى اليمنية الرافضة للحوثيين، بعد رهانهم عليها في تقليص نفوذهم وتحجيم قوتهم، وهذا يبدو استمرارا لعمل دولي منظم للحفاظ على فزاعة الحوثي في وجه الخليج، وعلى استخدامه لتفكيك البلد، لكن استمرار الرفض الشعبي للحوثيين هو استمرار عملي لبقاء المؤتمر كحزب لم يعد لقواعده رابط تنظيمي حاليا، بقدر ما تحولت روابطها إلى هوية وانتماء وعقيدة تغذي نفسها بنفسها، وبانحدار قوى وطنية أخرى لم تكن عند مستوى الرهان، حتى تعود دورة الحياة إلى الأحزاب وتتسرب الدورة الدموية خارجة من جسد الميليشيات السرطاني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى